بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول زادت قناعة صناع القرار الأمريكي بفرضية مركزية الدين في سياسة الشرق الأوسط، ما استدعى البحث عمن يمكن التحالف معه من تيارات الإسلام السياسي . وثمة دلائل كافية على أن البحث استقر على اختيار جماعة الإخوان المسلمين . وجاء حصاد “الإخوان” الانتخابي المبهر بعد الانتفاضات الشعبية العربية التي لم ينالوا شرف إطلاقها أو قيادتها ليزيد قناعة صناع القرار الأمريكي بصحة فرضيتهم واختيارهم، لكن تسونامي الشعب المصري في 30 يونيو الماضي أطاح سلطة “الإخوان” ومعها رهانات تحالفهم مع أمريكا، ما يفسِّر - بدرجة كبيرة - حيرة قيادة البيت الأبيض وارتباكها، وصدمة قادة “الإخوان” وجنون انتقالهم من خطاب النشوة والاستعلاء بعد الفوز بالسلطة إلى خطاب الدعوة إلى ممارسة العنف التكفيري واستدعاء تدخل حليفهم بعد سقوطها . هنا غاب عن ذهن قيادة “الإخوان” التي أصابها عمى البصر والبصيرة حقيقتان، الأولى: الأمريكان براغماتيون ومصالحهم، لا مصالح أدواتهم - بمسمى حلفائهم - هي ما يحدد سياستهم . أما الحقيقة الثانية فأمرُّ وأدهى، هي: ثورة 25 يناير المصرية - رغم خصوصيتها - هي ككل الثورات حدث تاريخي فاصل أطلق عملية تغيير كان من التبسيط تصور إيقاف اندفاعتها من دون تغيير البنية السياسية الاجتماعية والاقتصادية السابقة عليها، أو على الأقل إحداث تعديلات جوهرية عليها . وبالمثل كان من التبسيط - أيضاً - تصور إحداث هذا أو ذاك من دون المرور في تعرجات والتواءات بحسبان أن الثورة المصرية - ككل الثورات - ليست قطاراً يسير على خطين مستقيمين، بل على درب وعرة فيها الصعود والهبوط، وفيها الخسائر والإنجازات . لكن ما لا يمكن تجاهله في الحالات كافة هو أن الشعب المصري تعلم خلال عامين ونصف العام من الثورة أكثر مما تعلمه في عقود سبقتها .
لذلك كله كان من الطبيعي أن تأخذ ثورة 25 يناير مداها بديناميكية خاصة وموجات متتالية، بدليل أن موجتها الثانية جاءت أعتى من موجتها الأولى التي انطلقت جامحة كجموح حصان انطلق بعد حجز طويل . وأكثر، يبدو لي أن موجة 30 يونيو للثورة المصرية لن تكون - على الأغلب - الأخيرة، خاصة أن “الإخوان” ومواليهم في الخارج الإقليمي والدولي يصرون على معاندة حقائق الواقع بذريعة أن ما شهدته ميادين مصر، ولا تزال، منذ 30 يونيو الماضي من طوفان بشري غير مسبوق، ليس موجة ثانية للثورة، بل “انقلاب عسكري مكتمل الأركان” حسب توصيف قادة “الإخوان” الذي لم يتبناه كلياً الأمريكان، رغم محاولتهم استخدام زيفه بغرض الابتزاز ليس إلا .
على أي حال، بعيداً من حالة الإنكار التامة للواقع التي تعيشها قيادة “الإخوان” ومن يواليها أو يستخدمها، داخل مصر وخارجها، فإن الشعب المصري بإطلاقه حدث 30 يونيو التاريخي لم يصحح مسار ثورته، فحسب، بل أضاف على إنجازات موجتها الأولى، الإنجازات الأولية التالية:
أولاً: شق طريق العزل الجماهيري لجماعة “الإخوان”، بعد انكشاف عجزها وفشلها، واتضاح أنها مجرد إجابة خاطئة عن أسئلة الثورة الصحيحة، حيث تبين بما لا يدع مجالاً للشك أنها جماعة - على عكس ما ادعت ووعدت - محافظة فكرياً، وسلطوية استحواذية إقصائية سياسياً، و”نيو ليبرالية” اقتصادياً واجتماعياً، ومستعدة لإبرام الصفقات مع قوى الثورة المضادة بقيادة الولايات المتحدة، خارجياً، ورجال المال والأعمال، داخلياً . وكل ذلك في إطار محاولات احتواء ثورة 25 يناير، وتفصيلها على مقاس الجماعة عبر إدخالها في دهليز مسار دستوري ليبرالي، انقلبت عليه بعد وصول مرشحها لمنصب رئاسة مصر، منصب استغله لمصلحة تمكين “جماعته” عندما انتهك الدستور وتجاوز صلاحياته وأصدر “إعلاناً دستورياً” جعله حاكماً منزهاً بغرض تمرير دستور غير توافقي .
ثانياً: عمق مفهوم الثورة في ذهن عامة المصريين، حيث لم تعد الثورة بالنسبة إليهم مسألة تغيير شخوص . فمرسي، (مثلاً)، صار في الوعي الشعبي صنو مبارك وعلامة فاشلة لتيار سياسي يعيد إنتاج سياسات نظامه، داخلياً وخارجياً، اجتماعياً واقتصادياً، حيث حل رجال مال وأعمال “الإخوان” بقيادة خيرت الشاطر وحسن مالك محل رجال مال وأعمال نظام مبارك بقيادة أحمد عز وحسين سالم . يقول حمدين صباحي بمرارة كأننا “استبدلنا رأسمالية السيجار برأسمالية السواك” .
ثالثاً: زاد انتباه القوى والتيارات السياسية والحركات الشبابية للثورة إلى حاجات الناس الواقعية، بحسبان أن تلبيتها، هو القول الفصل في الحكم على جدارتها، والمعيار الأساس لتقدم أو تراجع شعبيتها .
رابعاً: عمق الوعي الشعبي المصري، بل والعربي، عموماً، بالدور الأمريكي وارتباطاته في الداخل . وتجلى ذلك في إعادة “الميادين” الاعتبار لمفهوم السيادة والاستقلال الوطنييْن ورفض التهديدات والابتزازات الأمريكية، ما يعني تعميق الوعي بأن مصر حتى لو تخلصت من حكم “الإخوان”، فإن الولايات المتحدة تريد، وتعمل على، إبقائها دولة تابعة خاضعة في السياسة والأمن والاقتصاد .
خامساً: أدخل الشعب المصري - بقوة - على خط الصراع بين تياريْن سياسييْن يتبنيان خطاب اقتصادات الليبرالية الجديدة، هما تيار “نظام الإخوان” وتيار “النظام السابق”، ما يفسح المجال لتقوية تيارات سياسية ذات خطاب أكثر عقلانية وأكثر قدرة على حمْل مهمة إعادة بناء الوطنية المصرية، وإعادة صياغة نظام حكم يقوم على العلاقات المدنية، وينتهج سياسة اجتماعية واقتصادية أكثر عدالة وأكثر قدرة على تعزيز استقرار النظام . تجلى ذلك في إطلاق مبادرات لجمع تبرعات تستهدف الرد على التهديد الأمريكي - الابتزازي - بقطع المعونة عن مصر، وفي دعوة الجمعيات الخيرية الوطنية إلى الحلول محل الجمعيات “الإخوانية” التي تقدم الإعاشة لعدد كبير من فقراء مصر، وفي مبادرة بعض الرأسماليين الوطنيين بطرح مشاريع اقتصادية كبرى ذات طابع إنتاجي تنموي، وفي رؤى تنموية مختلفة تقدم بها العديد من العلماء والمفكرين والسياسيين المصريين . وكل ذلك في إطار الرد على سياسة الانفتاح والخصخصة التي غيّبت الفكر التنموي المنتج الذي ساد مصر في العهد الناصري لمصلحة سيادة الفكر الكمبرادوري الاستهلاكي والإفقاري في آن .
قصارى القول: موجات ثورة 25 يناير تتوالى، وكما لم تنفع صفقات “الإخوان” مع الأمريكان في احتواء موجتها الأولى، فإنه لن ينفع لإعادة عقارب جولتها الثانية إلى الوراء وعيدهم بإغراق مصر في موجة جديدة من الإرهاب التكفيري، كخيار يحفل سجلهم بالتحريض عليه وممارسته .
* نقلا عن "الخليج" الإماراتية
إرسال تعليق