حبّة التمر التى كسرتُ بها صيامى يوم 26 يوليو 2013 قدمتها لى صبيةٌ جميلة، لمحتُ فى رُسغها صليباً أزرق، بلون النيل، ولون عين حورس الفرعونية، فعرفتُ أن مصرَ تصحو من غفوتها، وأن شعبَها الطيب فى رباط إلى يوم الدين.
رُفع أذانُ المغرب، ودقَّت أجراسُ الكنائس فى لحظة أسطورية واحدة. فتناولتُ إفطارى مع شباب من حركة تمرد الواعدين، وأنا أرمى ببصرى من فوق المنصة الرئيسية أمام قصر الاتحادية لأتأمل ملايين المصريين يحملون الأعلام المصرية، ويتناولون إفطارهم معاً، فلا تميز المسلم من المسيحىّ. لحظة نادرة سوف يقرأها أولادُنا وأحفادُنا فى كتاب التاريخ، ليتعلّموا أن مصرَ العريقة قد علّمت أبناءها، على مرّ الزمان، أن يقفوا يداً واحدةً ضدّ الهادمين أعداء الحياة والجمال والمحبة. صنع أجدادنا لحظة أسطورية مشابهة؛ ففى ثورة 1919، صعد شيخ الأزهر وخطب على منبر إحدى الكنائس، وصعد راهبٌ مسيحىّ وخطب من فوق منبر الأزهر، فأعطوا الشعبَ كله درساً بليغاً حول معنى، وشرف، أن تكون مصرياً. هو الدرس الذى جعل المهاتما غاندى يقول للزعيم سعد زغلول: «أتمنى أن يتعلم شعبُ الهند معنى الوحدة الوطنية الحقّة من الشعب المصرى، نحن نغبطكم!» وتعلّمت الهندُ الدرسَ فانتخبت رئيساً مسلماً على أغلبية هندوسية. والمعادل الموضوعى «الخيالى» لهذا فى مصر هو أن ننتخب رئيساً مسيحياً على أغلبية مسلمة، وهو ما لم يحدث؛ لأن الهند، التى كانت تحسدنا، سبقتنا على سلّم المواطنة وحقوق الإنسان ونبذ الطائفية. بل تمادت الهند فى شوط التحضّر وانتخبت امرأة كرئيس لدولة الهند؛ لأن المعيار «الأوحد» لديهم هو «الكفاءة»، وفقط، دون النظر إلى النوع أو العقيدة.
صومُ أقباط مصر المسيحيين معنا يوماً رمضانياً، من الفجر للمغرب، هو درسٌ آخر يؤكد لنا كم هم متحضرون لا يؤاخذوننا بما فعل السفهاءُ منّا. يوماً بعد يوم، نلمس وطنيتهم فى مواقف صعبة مرّت بهم وبنا. حُرقت كنائسُ، وقُتل مُصلّون، لكنهم لم يستنجدوا بالغرب. بل قال البابا شنودة: «لو أن أمريكا ستحمى كنائسَنا، فلتحترق كنائسُنا، وليمُتْ المسيحيون، وتبقى مصر». ورفض الاستفادة بالتطبيع مع إسرائيل، وفق كامب ديفيد، فلم يسمح لأبنائه بالحج إلى القدس إلا حينما تتحرر، ليسافر المسيحى يداً بيد مع شقيقه المسلم. وقبل رحيله عن هذا العالم، حاصر الكاتدرائية جيشٌ من المتطرفين وقاموا برفع السلاح والهتافات البذيئة. وكادت تندلع حربٌ أهلية. فخطب البابا فى شعبه قائلا: «اغفروا»، فتحول غضبهم إلى سلام ومحبة. تم إقصاء الأقباط من المراكز السيادية، وكثيراً ما رُفض تعيين أبنائهم المتفوقين من أوائل الدفعة بالجامعة، لكنهم لم يحنقوا على المجتمع. جُزَّت جدائلُ بناتهم عنوةً فى الطرقات، وأُجبرت فتياتٌ مسيحيات على الحجاب فى شمال سيناء، لكنهم لم يفقدوا حبهم لنا كمسلمين. خرج موتورٌ أحمق واستهزأ برموزهم المقدسة على الهواء (ورموزنا أيضاً، لأنهم أنبياء بررة) ثم أحرق إنجيلهم علناً أمام الكاميرات، فقالوا له: «الله يسامحك!» وخرج «شيخٌ» يسبُّهم علناً ويدعوهم بـ«الصليبيين» الكفار، ويدعونا كمسلمين إلى كراهيتهم وعدم مشاركتهم لحظات العيد ولحظات العزاء. فما بغضوه ولا بغضونا، بل ظلوا يشاركوننا أعيادنا وأحزاننا. وحين مرض ذلك «الشيخ» وبُتِرَت ساقُه، سافر للغرب (بلاد الكفرة الصليبيين) طلباً للعلاج، فما كان من أقباط مصر إلا أن رفعوا الصلوات المتواصلات لكى يشفيه الله.
شكراً للمحن التى تجعلنا أكثر وحدة ومحبة وتماسكاً. شكراً للإخوان والمتأسلمين الذين شاءوا أن يمزقوا نسيجنا، فوضعنا اليد فى اليد لنرفعها يداً واحدة فى وجه الشرير عدو الخير.
وشكراً للصبيّة الجميلة التى أطعمتنى حبّة التمر، بيدها التى يجرى فى شرايينها دمى المصرى.
المقال الاصــلي
إرسال تعليق