من الصعب التكهن بمآل الحملة العسكرية التي بدأها الجيش المصري في سيناء للقضاء على “المجموعات الإرهابية” التي رفعت وتيرة عملياتها المسلحة ضد المواقع العسكرية والشرطية بعد عزل الرئيس محمد مرسي . ومرد هذه الصعوبة لا يتعلق فقط بالجانب العملاني في شبه الجزيرة المصرية الواسعة الأرجاء التي تحولت إلى ساحة جذب للإرهابيين من أرجاء العالمين العربي والإسلامي، وإنما يتصل كذلك، وبالأساس، بتعقيدات مشهد العلاقات المركّب الذي طفا على سطح الخريطة المصرية الداخلية، وعلى شكل وطبيعة العلاقة مع الجوار الفلسطيني (الحمساوي) و”الإسرائيلي”، ومن خلفه الولايات المتحدة، بعد إطاحة حكم الإخوان المسلمين الذين أعلنوا، ومن دون مواربة، أنهم، وبموازاة تشكيل ميليشيات مسلحة لمهاجمة الجيش في الداخل المصري، لن يعيدوا الهدوء إلى سيناء إلا بعد عودة الرئيس المعزول .
وقبل التوجه إلى تفكيك أجزاء الصورة الملتبسة في سيناء التي يجري تحويلها إلى ساحة حرب واستنزاف للمصريين وجيشهم وثورتهم، لا بد من التأكيد أن الجيش المصري الذي يجري التصويب عليه من قبل تحالف الإخوان المسلمين وقوى الخارج، هو آخر جيش عربي مازال يحتفظ بقوته وتماسكه، ويرى أن دولة “إسرائيل” وجيشها هما العدو، رغم مرور أكثر من 33 عاماً على “كامب ديفيد”، ورغم العلاقة الخاصة التي تربطه، تدريباً وتأهيلاً وتسليحاً، بالولايات المتحدة . كما لا بد من الإشارة إلى أن المضي في طريق “الثورة” وتحقيق إنجازات وطنية وسياسية واقتصادية واجتماعية تلبي الحد الأدنى من مطالب الشعب المصري، سيصطدم، بالضرورة، بالخطوط الحمر “الإسرائيلية” والأمريكية، وتجلياتها المتعددة على مختلف المستويات، سواء ما تعلق منها باتفاقية “كامب ديفيد” التي عزلت مصر عن بيئتها العربية الطبيعية، وكبّلتها، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً، أو ما له علاقة بقيود التبعية المتعددة الأطراف للولايات المتحدة التي تمنع الدولة الوطنية المصرية من القيام بدورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المفترض، وتحوّلها إلى مجرد ظل للسياسات الأمريكية ومخططاتها في المنطقة .
انطلاقاً من ذلك، ومن خلال زوايا هذه الرؤية التي تسلط الضوء على التناقض الموضوعي ما بين أهداف الشعب المصري وتطلعاته المحرّكة للجولة الثانية من الثورة، ومصالح وأهداف الدولة العبرية والإدارة الأمريكية، يمكن النظر إلى مواقف “تل أبيب” وواشنطن حيال التطورات المصرية الأخيرة وتداعياتها المتخمة بالتحديات والمخاطر، وخاصة في سيناء التي يهدد الإخوان المسلمون باستخدامها ساحة صراع دموي رئيسة ضد الجيش المصري . إذ، بالنسبة إلى “إسرائيل” التي وافقت على تعليق العمل جزئياً باتفاقية “كامب ديفيد” حتى انتهاء حملة الجيش الأمنية، فإن خطابها الرسمي المعلن هو بذل المستطاع للحفاظ على كنز “معاهدة السلام”، بدليل إبلاغها الأمريكيين أن أي مساس بالمعونة الأمريكية السنوية لمصر يلحق أضراراً بالدولة العبرية؛ ومنع عمليات المنظمات الإسلامية ضدها انطلاقاً من سيناء، من خلال إقامة سياج أمني، بطول مئات الأمتار على طول الحدود البحرية القريبة من مصر، بين مدينتي إيلات وطابا في البحر الأحمر، بعد الانتهاء من بناء معظم أجزاء الجدار البري في منطقة إيلات، ومواصلة نشر وحدات معززة من قواتها على طول الحدود الجنوبية، ما يبقيها في حالة تردد بين تدخل محدود بنية اعتراض خطر بعينه، وبين الخوف من الانجرار إلى قلب الأحداث .
غير أن ثمة وجها آخر، غير مرئي، لهذه السياسة، تحكمه الاستراتيجية الحقيقية ل”إسرائيل”، التي تقوم على قاعدة مفادها أن “أمن واستقرار” الدولة العبرية يتطلب حالة من “الفوضى وعدم الاستقرار” في الدول العربية المحيطة، وعلى ضرورة “تسوية الأمور” مع المتطرفين، على حساب معسكر الديمقراطية والتقدم تحت سقف تفوق الدولة العبرية العسكري، بهدف إبقاء كرة النار مشتعلة في ملعب الدول العربية، وعدم السماح لأي شعب عربي بتقديم أنموذج ديمقراطي استقلالي يضع قضايا التحرر والسيادة والعدالة الاجتماعية في مقدمة جدول أعماله، ما يعني أن “إسرائيل” ستكون معنية بإذكاء نار الفتنة ضد الجيش المصري في سيناء، واستخدام العديد من المجموعات المتطرفة لإدارة “حرب عصابات” في مواجهته، ليس فقط للتأثير في شكل وطبيعة النظام السياسي الذي يتبلور راهناً في القاهرة، وإفقاده القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية تعيد بلاد النيل إلى دورها الريادي في الساحة العربية، بما في ذلك وضع حد لمعاهدة “كامب ديفيد”، بل، وأيضاً، لاستنزاف الجيش المصري ووضعه في سيناريو شبيه بما يحدث في سوريا .
أما بخصوص الأمريكيين الذين لم يتمكنوا من إخفاء علاقتهم الخاصة بزعامات “الإخوان المسلمين” في مصر، وتعاطفهم مع حكم محمد مرسي حتى اللحظة الأخيرة، لا بل والتلويح بقطع المعونة الاقتصادية، فيبدو أنهم غير معنيين، حتى الآن، بتقديم خطاب واضح وجلي يزيل الالتباس المتعلق بمصطلحات “الشرعية” و”الانقلاب العسكري”، و”الانتقال المدني والسلمي للسلطة” و”أهمية الأمن للشعب المصري والدول المجاورة والمنطقة” . وأسباب ذلك، وفق المرئي، تتجاوز مسألة المفاجأة والارتباك والتردد، إلى ممارسة أقصى درجات الضغط على الجيش المصري والقوى المدنية والأحزاب السياسية، وإبقاء سيف “إرهاب الإخوان” وأشقائهم المتطرفين مسلطاً على رؤوس الجميع، لإبقاء مصر تحت عباءة التبعية، وعدم السماح لها بالتأثير في “إسرائيل” أو في المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ولا سيما بعد أن بدأت تجربة حركة “تمرد” وثورة 30 يونيو/ حزيران تنقل عدواها إلى دول عربية أخرى .
نقلاً عن صحيفة "الخليج"