لم تكن المناسبة التي التقينا فيها تسمح بحوار طويل لكن حوارنا على قصره جاء معبرا عن الكارثة التي أوقعتها جماعة الإخوان بكل من انتمى إليها. كان قد أقبل نحوي بصحبة طفلته التي سلمت على طفلتي زميلتها في المدرسة، ربما شجعه جو المودة المحيط بنا على أن يقول لي بعد السلام والتحية «على فكرة أنا إخوان»، قلت ضاحكا «أحييك على شجاعتك كل الإخوان دلوقتي بيقولوا أنا مش اخوان بس باحترمهم»، قال متجاهلا سخريتي «أنا قريت مقالك امبارح اللي كنت بتهاجم الجماعة فيه وبصراحة ليك كل الحق»، لم أعلق فقد عودتني التجربة أن فقرة النقد الذاتي تعقبها فقرة التبرير والحديث عن المؤامرات والأصابع الخارجية، لكنه واصل قائلا «إحنا للأسف بسبب غباء قياداتنا ضيعنا الجماعة وربنا يستر ومانضيعش البلد»، قلت معلقا ثم سائلا «البلد عمرها ماهتضيع الجماعة بس هي اللي هتضيع، إنما حضرتك سبت الجماعة خلاص؟»، رد «للأسف لا» ثم أضاف بحماس «بس أنا رحت للمهندس خيرت وواجهته وقلت له انت ضيعت الجماعة بقراراتك»، سألته «وقالك إيه؟»، أجابني «ماردش طبعا.. بس هي المشكلة مش فيه بصراحة المشكلة في شعب الإخوان اللي ماشي وراه وخلاص»، كنت أسمع التعبير لأول مرة فاستوقفته «شعب الإخوان؟ جديدة دي»، استدرك «أقصد جمهور الجماعة اللي ماشي ورا القيادات من غير اعتراض..يقولوا له الرأي وعكسه ومطلوب منه يسمع الكلام في الحالتين»، سألته «طيب لما حضرتك عارف ده ليه مصمم تكمل مع شعب الإخوان ماتخليك مع بقية الشعب أحسن»، هز رأسه بأسى وقال «للأسف ما أقدرش أسيب الإخوان دلوقتي أنا عشت عمري كله في الجماعة وآديني باقول كلمة الحق جواها على أمل إن ربنا ينفع بكلامي»، عندها كان أولياء أمور آخرين قد انضموا إلينا فلم يكمل كلامه ولم تتح لي فرصة نصحه بألا يضيع في أوهام الإصلاح من الداخل عمره، استأذن وابتعد مع ابنته ليتركني بصحبة ذلك التعبير الذي لم يفارقني منذ سمعته منه.
جعلني تعبير «شعب الإخوان» أستعيد كتابا شهيرا رائعا هو كتاب (المؤمن الصادق) الذي صدر عام 1950 ودرس فيه المفكر الأمريكي إيريك هوفر طبيعة الحركات العقائدية المنظمة وقدرتها على الاحتفاظ بولاء أتباعها والسيطرة عليهم، لأنها «تتحول إلى ملجأ يأوي إليه الأفراد الهاربين من مشاعر القلق والخواء والضياع حيث يتم تحريرهم من نفوسهم وضمهم إلى مجموعة سعيدة شديدة الترابط»، ولذلك تقوم بتطوير تنظيم جماعي متماسك يستطيع اجتذاب المحبطين الذين يجدون فيها عزاءهم وأمانهم وينصهرون فيها انصهارا كاملا يجعل الفرد مستعدا للتضحبة بنفسه من أجل التنظيم، ولكي ينجح قادة التنظيم في ذلك فإنهم يحرصون على سلخ الفرد عن هويته الذاتية وعن تميزه، لكي يتوقف عن الشعور أنه خلية بشرية مستقلة لها وجود خاص. يقول إيريك هوفر «إن الفرد المنصهر في الجماعة لا يعد نفسه ولا الآخرين كائنات بشرية فعلية. عندما تسأله من هو؟، فإن جوابه التلقائي هو أنه ألماني أو روسي أو ياباني أو مسيحي أو مسلم أو عضو في قبيلة معينة أو عائلة ما، ليس لهذا الفرد من معنى أو هدف أو مصير إلا من خلال الجسم الجماعي». ولكي تستطيع الجماعة إقناع هذا الفرد بأن يموت مضحيا من أجلها فإن قيادتها تحرص على إزالة هيبة الموت التي تجعل الإنسان العادي ينفر منه، لتحول الموت إلى شيئ أشبه بطقس درامي مبهج، باستخدام كثير من الشعارات الخيالية التي تجعل الفرد يواجه الموت بدون تردد، «إن أهم واجبات القائد هنا هو طمس حقيقة الموت والقتل المرعبة، بأن يخلق في نفوس أتباعه الوهم، إنهم يشاركون في منظر باهر، في طقس من الطقوس المسرحية المثيرة».
لكن تضحية الفرد بنفسه من أجل أهداف القيادة لن تتحقق كما يقول إيريك هوفر إلا إذا سيطرة القيادة على أعضائها وقامت «بتشويه الحاضر لهم، فتصوره على أنه بغيض وبائس، وتصوغ للفرد وجودا متجهما وقاسيا ومتسلطا ومملا، وتدين كل الشهوات والرغائب ووسائل الراحة، وتمجد الحياة الصعبة، وتعتبر المتعة العادية أمرا تافها بل مكروها، وتعتبر أي مسعى للحصول على السعادة الشخصية أمرا غير أخلاقي». وكما يلاحظ هوفر فإن قيادة الجماعة لا تفعل ذلك اعتباطا بل لأنها تدرك حقيقة مهمة هي أن أعضاءها لو امتلكوا في حياتهم شيئا يستحق الحياة من أجله لما شعروا برغبة في القتال، «لأن الذين يعيشون حياة ذات قيمة لا يكونون عادة مستعدين للموت ولو حتى من أجل الشعارات المقدسة»، فما يولد الإندفاع الذي يؤدي إلى التضحية بالنفس هو تطلع الإنسان إلى الشيئ وليس امتلاكه له، ولذلك فإن من تقوم القيادة بالتضحية بهم هم أتباعها من الفقراء والبسطاء الذين لا يمتلكون ما يدفعهم لحب الحياة والتمسك بها.
لن تجد أي فرق بين ما توصل إليه إيريك هوفر بعد دراسة مستفيضة لكل الحركات العقائدية على اختلافها عن بعضها، وبين ما يمارسه قادة الإخوان مع «شعب» جماعتهم الذي توهموا أنهم سيسيطرون به على الشعب المصري بأكمله، وغفلوا عن أن الأساليب التي تصلح للسيطرة على أفراد تنظيم يشعرون بالضياع إذا فارقوا محيط الجماعة الذي عاشوا فيه طيلة عمرهم، لن تصلح أبدا للسيطرة على أفراد شعب يحب الحياة ويقدس حريته الشخصية ويثور من أجل تحسين حاضره وليس من أجل التضحية بذلك الحاضر ليضمن مستقبل قياداته وأنجالهم، فيا روح مابعدك روح.
خلاصة القصة: كان لدى جماعة الإخوان بعد أيام التحرير الثمانية عشر فرصة تاريخية لن تعوض، لأن تكون جزءا غير منفصل عن عموم الشعب المصري، لكن قادتها قرروا أن الأهم هو بقاء «شعب الإخوان» مستقلا ومنعزلا ومتمايزا، وصار عليهم الآن أن يدفعوا ثمن ذلك الإختيار، وهو ثمن لا يعلم كلفته إلا الله، والله غالب على أمره.
المقال الاصـــلي
إرسال تعليق