لقد ابتدأت مسيرة التحرر من الهيمنة الدينية والانفتاح الاقتصادي المدروس، وانتقاء الدكتور حازم ببلاوي لتولي دور رئيس الوزراء افضل برهان على اهتمام القادة الجدد بأوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية. فالدكتور ببلاوي تولى وزارة المال في مصر ما بعد ازاحة الرئيس حسني مبارك، وهو مدرك لمصاعب إحياء الاقتصاد المصري، ودفع المصريين الى العمل المنتج. وقبل دوره في الحكم في مصر، كان الدكتور ببلاوي امينا تنفيذيا للجنة الامم المتحدة التي تعنى بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الاسكوا”. و"الاسكوا" بكادراتها وخبرائها اعاد استقدامها الى لبنان رفيق الحريري بإصراره على انجاز مقر هيئات الامم المتحدة كأول مبنى حديث في وسط بيروت وقد صممه المهندس المعماري المميز الراحل بيار خوري.
في لبنان قام حازم ببلاوي بدوره بكل كفاية، ومع ان مسؤولياته شملت بلدانا عدة في منطقة غرب آسيا بينها لبنان، فقد كرس نسبة ملحوظة من وقته للشؤون اللبنانية وحاجات اللبنانيين ووثق علاقاته مع السياسيين والاختصاصيين وكنت واحداً من هؤلاء، ونتيجة معرفة قدرات الدكتور ببلاوي وخبرته ننظر بتفاؤل الى دوره في اعادة سكة الحياة الى سيرها الطبيعي في مصر.
تخبط جمهورية مصر العربية بعد اطاحة الرئيس مبارك في كانون الثاني 2011 ساهم في توسيع نطاق التخبط العربي وسوداوية التوقعات المستقبلية.
ذلك ان مصر كانت ولا تزال في موقع القلب من الكيانات العربية. فموقعها الوسطي بين بلدان المغرب وبلدان المشرق العربي، وعدد سكانها، وتاريخها الفني، وتراثها الثقافي، واحتضانها جامعة الدول العربية، كلها امور كانت تجعل مصر مركز الثقل في القرار العربي.
والخطوات المتعجلة بعد ازاحة الرئيس مبارك، افسحت في المجال للفريق الاكثر تنظيماً، أي جماعة "الاخوان المسلمين"، احكام سيطرتها. وقد واجهت الجماعة القمع منذ قيادة عبد الناصر لمصر والى حين استقالة مبارك، ولذا كانت خلاياها منظمة، ولكن لتحقيق هدف سياسي، الا وهو الاستيلاء على الحكم. لكن "الاخوان" لم يكن لديهم برنامج اقتصادي اجتماعي لبلد يزيد عدد سكانه على 85 مليوناً ويشكو من عجز مستمر في الموارد وتردي مواصفات منشآت البنية التحتية وشكوى عامة من تفشي الفساد.
وغياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، كما حصر الاهتمام بفئة من المصريين وتفادي الآخرين تسببا بانتشار الشكوى من حكم الرئيس محمد مرسي، وبرز الامتعاض في تظاهرات لم يشهدها أي بلد في العالم . فقد تجاوز عدد المعترضين علناً من المطالبين بتنحية الرئيس عدد الذين انتخبوه منتخبيه بثلاثة اضعاف.
ما حدث في مصر ضبط لانفلاش الاسلاموية السياسية وميلها الى التسلط المسلكي على حياة الشعب. فالمصريون يريدون اعادة تكريس الحريات الشخصية، سواء على صعيد الرأي، الدراسة، الملبس، او الحريات الاقتصادية. والمصريون يريدون نسيجاً اجتماعياً يحتوي كل الاجناس والملل، ويتطلعون، وهم اصحاب اعمق الثقافات، الى ولوج عالم القرن الحادي والعشرين.
ان هذه الاستهدافات للثورة الثانية في مصر لقيت استحساناً لدى بلدان لا شك في التزامها الدين الحصيف كالمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، فسارعتا الى توفير التزامات مالية تبلغ ثمانية مليارات دولار للحكم الجديد، ايماناً بتوجهات الرئيس المؤقت عدلي منصور واختياره لرئيس وزرائه. وبادرت الكويت الى مساندة الحكم في مصر بتأمين 4 مليارات دولار، وبعد توافر هذه الموارد واستناداً الى سمعة وقدرة حازم ببلاوي لا بد وان يوفر صندوق النقد الدولي 3-5 مليارات دولار من التسهيلات فتصبح مصر متجاوزة للضيقة على مدى 6 اشهر يؤمل بعدها ان تكون الحياة الاقتصادية، السياحية والاستثمارية استعادت زخمها.
وبادرت الكويت الى مساندة الحكم في مصر بتأمين اربعة مليارات دولار. وبعد توافر هذه الموارد واستنادا إلى سمعة حازم ببلاوي وقدرته لا بد ان يوفر صندوق النقد الدولي ثلاثة الى خمسة مليارات دولار من التسهيلات، فتتجاوز مصر الضيق مدة ستة اشهر يؤمل بعدها ان تكون الحياة الاقتصادية والسياحية والاستثمارية قد استعادت زخمها.
الحركات الاسلامية حظيت بالمقدار الاكبر من الانتباه والتخوف في المشرق العربي، والعاهل الاردني تحدث عن هلال شيعي يمتد من ايران الى العراق، فسوريا، ولبنان، ومن ثم برز الكلام عن مد سني من مصر بمساندة دول الخليج واخصها السعودية، والكويت، والامارات، وقطر، الى سوريا، ولبنان، وباتت تصورات الحلول في المنطقة تتمحور على التقديرات عن نجاح الشيعة والسنة في توسيع التمركز والقرار.
التطورات في مصر والاستجابة لها من السعودية والامارات قلبتا هذه التوقعات، واكدت ان المستقبل لن يكون مسرحاً للتقاتل بين المسلمين، بل مسرحاً لاستعادة النمو والآمال وتوسيع نطاق الحريات الشخصية والاقتصادية، وتاليا اكدت دول الخليج انها غير متعاطفة مع الحركات الاسلامية المتشددة.
استعادة مصر لترجيح كفة الاعتدال في العالم العربي واستجابة دول الخليج لحاجاتها في مسيرتها الجديدة، امر بالغ الاهمية للعالم العربي، ولا بد ان ينعكس هذا الامر بصورة ايجابية على ليبيا الدولة المتاخمة لمصر والتي كانت دوماً مؤثرة في مستقبل مصر ومتأثرة به.
اضافة الى التطورات في مصر، لا بد من استذكار مغزى انتخاب حسن روحاني في ايران. فهذا الرجل الحكيم والمعتدل والمدرك للتطورات الدولية، لم يتوقع المتشددون في ايران نجاحه في الدورة الاولى، وقد صعقوا الظفرة باصوات غالبية الناخبين الامر الذي اكد توجه غالبية الإيرانيين نحو مزيد من الحريات الفردية، وانفتاح على المجتمعات الاخرى، وابتعاد عن محاولات التأثير على الحكم ومرتكزاته في العراق، وسوريا ولبنان.
مصر التي بدأت تستعيد دورها الوازن، وبدأت تستعيد اهتمام دول الخليج بالاستثمار في استقرارها، تتجه بالتأكيد نحو طمأنة الدول العربية الاخرى، ومنها سوريا ولبنان، والى ان الاستقرار والاهتمام بقضايا الناس هما جوهر تطور المجتمعات.
ويبقى ان تستفيد تركيا من دروس مصر لا ان تعتبر ثورة غالبية المصريين انتقاصاً من ديموقراطية كانت بالفعل وقياساً بقراراتها وتوجهاتها ثيوقراطية. والحد الفاصل بين الديموقراطية والثيوقراطية دقيق وعلى رجب طيب اردوغان ان ينتبه الى هذا الامر اذا شاء تصنيف بلده ديموقراطيا.
المقــال الأصــلي
إرسال تعليق