يعيش التونسيون منذ الرابع عشر من يناير 2011 حالة نفسية وسياسية مربكة، تجمع بين التفاؤل والتشاؤم، إذ كلّما انفرج الوضع العام أو اتخذ طريقه نحو الإنفراج، إلا وانفجر لُغم هنا وهناك، فيعيد حالة القلق والترقب الحاد.
هذا ما حدث خلال الأسبوع الماضي، حيث عاشت البلاد تحت وقْع حدثيْن متناقِضين. الأول، مُطمئِن والثاني مُثير للمخاوف. أحدهما أعاد الأمل في إمكانية التوافق بين مكوّنات النخبة التونسية وتأمين ما تبقّى من المرحلة الإنتقالية، التي طالت أكثر من اللّزوم، حسب اعتقاد الكثيرين، بما في ذلك المؤسسات الدولية المراقبة للحالة التونسية، والتي قرّر العديد منها التخفيض في الرقم السيادي للإقتصاد المحلّي، في حين أفسد الحدث المقابل هذه الأحاسيس الإيجابية وجعل الكثيرين يستحضِرون الأسوأ، وتعود ذاكرة البعض منهم إلى السيناريو الجزائري في التسعينات.
نبدأ بالحدث الأول، الذي يمكن وصفه بالمُنعرَج في الحياة السياسية التونسية. وتَمثَّـل هذا الحدث في انعقاد جولة جديدة من الحوار الوطني، الذي بدأ في قصر الضيافة بضاحية قرطاج، بدعوة من رئيس الدولة، مُقتصرا على الأحزاب الرئيسية، وتوّج في قصر المؤتمرات وسط العاصمة، حيث انعقد الشوط الثاني من مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل (أهم مركزية نقابية في البلاد)، وتميّز بمشاركة أغلب الطيْف السياسي وأهَـم مكوِّنات المجتمع المدني.
لقد توصّل هذا الحوار - الذي انطلق مُتعثِّـرا - إلى نتائج إيجابية، حيث حصل توافُـق حول معظم المسائل الخلافية، التي كانت السبب في تعثُّـر المحاولات السابقة للحوار. ومن هذه المسائل، النظام السياسي، حيث قبلت حركة النهضة بتعزيز صلاحيات رئيس الدولة المُقبل، وبذلك توفّر الحدّ الأدنى من التوازن بين رأسيْ السلطة التنفيذية. كذلك، اتفقت الأطراف المُحاوَرة حول المعالم الأساسية للقانون الإنتخابي، الذي سيُعتَمد في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، وهي خُطوة هامة، كان يُخشى أن تثير جدلا عاصِفا وتزيد من تمطيط المرحلة الانتقالية.
كما حصل تقدّم في التفاوض حول ملف رابطات حماية الثورة، التي تُطالب جميع الأطراف الحزبية والمدنية بحلّها، وهو ما ترفضه حركة النهضة. لكن رغم ذلك، أمكن التوصل إلى صيغة وِفاقية، تمثلت في الإبقاء على الروابط المُعترف بها، حيث تبيّن أن الأغلبية الساحقة منها، توجد في وضعية غير قانونية ولن يبقى منها، بعد إيقاف نشاطها، سوى اثنتان فقط.
لقد عكس البيان الخِتامي روحا وِفاقية عالية، مما أضفى على المناخ العام، أجواء إيجابية تميَّـزت بالتفاؤل والثقة، رغم استمرار التوتّر بين أنصار الوطنيين الديمقراطيين وحركة النهضة، المُتَّـهمة من وجهة نظرهم، بالوقوف وراء اغتيال شكري بلعيد. وبالفعل هبّت نسمة من التفاؤل بعد أن سيْطرت التجاذبات الأيديولوجية والسياسية على البلاد طيلة المرحلة السابقة، مما جعل عموم التونسيين في شكّ من أمْرهم ومن مُستقبلهم، وجعلت ثِقتهم في الحكومة، وخاصة رئاسة الجمهورية والمجلس الوطني التأسيسي، تتراجع بشكل غيْر مسبوق في آخر استطلاع رأي قام به "الباروماتر" العربي وتم نشر نتائجه قبل أسبوع.
إجمالا، تمثّل نتائج الحوار الوطني، قطعا لجزء هام من الطريق، لكن جزءً آخر من التحدّي لا يزال قائما ويحتاج إلى صبر وتوافُـق.
التحدّي الإقتصادي والإجتماعي
تختلف التقييمات والتقديرات للوضع الاقتصادي بين الحكومة من جهة، التي اكتفت بالنظر إلى الجزء الملآن من الكوب وتحدّثت عن حصول تقدّم، في حين اعتبر اتحاد الصناعة والتجارة وأطراف المعارضة، أن الحالة الإقتصادية تراجعت وتقترِب من الانهِيار.
كذلك، يستمر الإختلاف بين الحكومة والرئاسة من جهة وبين النقابيين من جهة أخرى، حول مسألة الإضرابات. ففي حين تُطالب الترويكا الحاكمة (حزب حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات) بضرورة إقرار هُدنة اجتماعية طيلة الفترة القادمة إلى تاريخ تنظيم الانتخابات، ترفُض قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ذلك، وتعتبِر أن الحلّ يكمن في الضغط على الأسعار واحترام الحكومة لتعهّداتها وتنفيذ ما ورد في الإتفاقات التي وقّعتها مع النقابات. هذا هو الوجه الآخر من العُقدة، حيث لا استقرار بدون تأمين الجبهة الإجتماعية، التي تعكِس مدى استعداد جميع الأطراف لتحمّل تكلفة المرحلة الإنتقالية.
في هذه الأجواء الحاملة لبذور الأمَل، صعّدت جماعة "أنصار الشريعة" من خطابها، وذلك عندما أصرّت قيادتها على رفض الترخيص من وزارة الداخلية لعقد مؤتمرها الثالث بمدينة القيروان، واعتبرت أن مجرّد طلب الموافقة الإدارية، عمل غير شرعي، لأن "الدّعوة إلى الله لا تحتاج إلى رُخصة من أحد"، على حد تصريحات قيادييها. ولم تكتفِ بذلك، بل أعلنت أنها ماضية في تنظيم هذا المؤتمر في مكان عام، مهما كانت التكاليف، محملة وزارة الداخلية والحكومة مسؤولية الدّماء التي ستسيل، في صورة حصول مواجهات بين أنصارها وقوات الأمن.
ولم تكتف هذه الجماعة بذلك، بل لجأت إلى نصب خيام في ولايات متعدّدة، وصفتها بكونها خيام دعوية، وعندما اعترضت وزارة الداخلية على ذلك، نظّمت الجماعة حملة واسعة ضدّ رجال الأمن، الذين تم وصفهم بـ "الطاغوت"، كما تمّ تخييرهم بين "الإلتحاق بجيش المؤمنين أو البقاء في جيش الكافرين"، حسبما ورد على لسان قادة التيار.
وبذلك، وجدت الحكومة نفسها بين احتماليْن أحلاهما مُر، إما مواجهة هؤلاء بقوّة وحزْم أو القبول بإرادتهم، وهو ما من شأنه وضع الدولة في موضع الضّعف والإستضعاف، مما سيزيد من تطاوُلهم واستمرارهم في تحدّي الدولة وفرض حالة الأمر الواقع. وفي نهاية المطاف، اختارت الحكومة السيناريو الأول، حتى تحافظ على هيبة الدولة التي بدونها قد تفتح على نفسها وعلى البلاد أبواب المجهول.
توجُّـس وتساؤلات
هكذا، عاد الملف السّلفي ليُعيد حالة التوجّس من جديد ويطرح تساؤلات حول احتِمال انزلاق البلاد في دوّامة العنف، خاصة وأن هذا التصعيد من قِبل أنصار الشريعة، يأتي في ظرف أمْني صعْب، حيث لا تزال عمليات التمشيط مُستمِرة في جبل الشعانبي (1500 متر، غرب البلاد)، بحثا عن العناصر الإرهابية التي يُزعم أنها تمكّنت من الإختفاء بين ثَـنايا هذه المِنطقة الوعْـرة. ونظرا لأهمية هذه العملية وخطورتها، فقد قرّرت الجزائر وضع ستّة آلاف جندي على حدودها المُشتركة مع تونس، وحفْر خَـندق عميق على أراضيها، لمنع تسرّب المجموعات الإرهابية بين البلديْن.
وحتى يزيد أنصار الشريعة، القريبين من تنظيم القاعدة، تحدِّيهم، فقد وصفوا ما يجري في جبال الشعانبي، بكونه "مجرّد مسرحية"، موجّهين أصابع الإتِّهام إلى الجنرالات الجزائريين، بكونهم "في خدمة القوى الغربية المُعادية للإسلام"، مؤكّدين بذلك تحالُفهم الإستراتيجي مع تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي.
ومرة أخرى، تجد تونس نفسها من جديد عُـرضة لحسابات جماعات راديكالية، يتعاظم شأنها يوما بعد يوم، لا تحترم قواعد اللّعبة الديمقراطية، التي ترى فيها "كُفرا وعمالة للغرب"، لكن المؤكّد أن هناك إرادة جماعية لدى كافة مكوِّنات النُّخب السياسية والمجتمع المدني لرفض هذا التشدّد الدِّيني والسياسي، ودعم أيّ توجّه نحو مقاومته.
صحيح أن المعركة قد تكون مُكلفة ومُرهقة، لكن أقصى ما سيحصل لن يزيد عن تأجيل توقيت المواجهة، حيث أن الصِّدام بين الدولة وهذه الجماعات "يكاد يُصبح حتمِيا"، مثلما تعتقده أطراف سياسية داخل الحكومة التونسية وخارجها.
المصدر: سويس انفو